Blog
Roy Dib

لطفاً، يمنع على الرصيف، الفقراء. بلدية بيروت

إنتهت السهرة المعتادة في إحدى حانات شارع الحمرا، في ساعة متأخرة من الليل. ما عدت أذكر التوقيت، إذ غالباً ما أصرف نظري عن الساعة بعد مرور منتصف الليل حينما أعلنها سهرة كيف. لكني أذكر أنني كنت ثملاً بعض الشيء، وفي حالة نعس شديد. لكن أصدقائي أصرّوا على أن نمرّ بالبحر قبل عودة كلٍ إلى بيته. وبما أني لا أملك سيارة، ولم أكن مستعداً لمجادلة سائق السرفيس على الأجرة ( ”-٣ سرفيسات، -لاء٢، -حا وصلك، وإرجع فاضي ! -شكراًٍ”.)

فإنصعت لرغبة أصدقائي و فضلت أن يوصلوني في طريق عودتهم إلى بيتي. وفي سريّ، ما كنت معارضاً للمشروع لولا النعس، إذ أنني إشتقت لذلك الروتين الذي كن يقودني مع نهاية كل سهرة إلى كورنيش “عين المريسه”، حيث كان أحياناً يشرق الصبح عليّ. وكان قد مضى زمن طويل على ذلك.

لكني أبلغتهم برغبتي بالسير على الأقدام، لعلني أصحى قليلاً. (“-وبلاقيكم عالبحر دغري، -لاء عند أنكل ديك، -طيب ماشي”.) وصلت زاوية تمثال جمال عبد الناصر فلفحني نسيم البحر. توقفت قليلاً، ثم أسرعت نحو أنكل ديك، لأجد الشلة منتظرة طلبها، في السيارة، من أحد شباب الدليفري. عبثيّة هي تلك المهنة! إذ تنحصر في أخذ الطلبات من السيارة الراكنة بُعد أربعة أمتار عن القهوة، ثم الإتيان بالطلب. (”هلق الشغل مش عيب”) ولكن ما أبرع اللبنانيّ في إبتداع مهن جديدة : “ديلفيري الأربع متار”. أبيت أن أركب موجة الكسل تلك، ودخلت بنفسي لأطلب كوب الناسكافيه بالناستليه المحلىّ والدسم. شعرت بأنني بطل، ثائر على النظام، وصاحب موقف. ضارباً بعرض الحائط أسطورة أن رأسمال لبنان الوحيد، يكمن في قطاع الخدمات والدليفري، ومقولة وزارة السياحة “كرمال يفلوا ضحكتن رطلين!”. يا لسخرية السِكر، تجعل من هكذا فعل، بطولة.

عبرت الطريق إلى الرصيف البحريّ (الكورنيش)، و فيما كنت أنتظر رفاقي لإيجاد مكان للسيارة وركنها إقتربت من السور نحو البحر. وإذ بحشريتي الملعونة تدفعي للإقتراب من يافطة حمراء لأقرأ ما كتب عليها.

قرأت المرة الأولى، فلم أصدق عينيّ. عاودت القراءة، ولم أفهم. ثم ثالثة لأتأكد من الإمضاء، نعم إنها “بلديّة بيروت” والممنوعات الأربعة. يبدأ النص، أو الفرمان، بعبارة “لطفاً” لوحدها على السطر. كم هي جميلة اللباقة والتهذيب والإحترام في مخاطبة المواطن ! “يمنع على الرصيف” على السطر الثاني، ثم النقاط الأربعة.

أولاً : “قيادة الدراجات الهوائية” إنتباه “للكبار”. لأن من يريد ممارسة رياضة ركوب الدراجات الهوائية على طول البحر في نهار مشمس، يمكنه بسهولة أن يسلك الطريق التي خصصتها البلديّة للدرجات إلي جانب السيارات. طريق مؤمّنة بسلامة خاصة، ومجهّزة حتى بإشارات ضوئية. فلماذا إزعاج المشاة على الرصيف، أو حتى التفكير في تخصيص طريق للدرجات على الرصيف جهة الأوتوستراد.

ثانياً : “وضع الكراسي”. طبعاً، فإن على إمتداد الرصيف الكثير من المقاعد التي تزاحم المارة في سيرهم من شدة كبرها ورحابتها. ولا أدري إذا تم إستثناء كراسي القش لصيادي السمك، بسبب الوظيفة العمليّة لها. أم أنها بحاجة إلى رخصة تُباع في البلدية مقابل إبراز بطاقة نقابة صياديّ السمك المحترفين؟ على كل حال، فمن لا يرتاح بالجلوس سوى على كرسيه، فليلزم بيته. أو بإمكانه قصد حرش الصنوبر أو أيّ من الحدائق العامّة العديدة في بيروت، والمشرعة أبوابها لجميع المواطنين دون إستثناء، ومع كراسيهم. تجدر الإشارة أن الكراسي المدولبة لذويّ الحاجات الخاصة لم يتم تحديد شملها ضمن ذلك البند من الممنوعات. لذلك يفضل، للمهتمين، مراجعة البلدية مع صورة عن الكرسي ورقمها وصورة عن هوية “المقعد” لعلها طلبت المستندات المذكورة في حالة درس كل ملف بملفه.

ثالثاً : “تدخين النرجيلة”. وذلك من دون أي شك، ليس إلا بدافع غيرة البلديّة على سلامة وصحة المواطن. علماً أن كل رأس نرجيلة يساوي علبة سجائر كاملة. وهنا البند لا يذكر السيجارة العادية أو الملغومة، ولا السيغار الكوبي، أو حتى الغليون. وذلك ربما لصغر حجمهم، مما لا يعكر المنظر العام ! فلا أحد يعلم بأسرار وحكمة البلدية. بذلك إطمأنت نفسي بعدم خرق القانون وأشعلت سيجارة قبل الشروع في قراءة الممنوع الرابع.

رابعاً، وأخيراً : “تناول المأكولات”. وعلى ما يبدو، المقصود به هنا المأكولات على أنواعها، بدءاً بالسندويشات المختلفة الأحجام حتى المناسف واليخاني. ترددت قليلاً ونظرت إلى كوب القهوة في يدي، راجعت الفرق اللغويّ والبيولوجيّ ما بين الأكل والشرب، مستنتجاً أن لا مشكلة مع المشروبات حتى الكحول منها، إلا في حال السكر الظاهر. وهنا تجدر الملاحظة أيضاً، أن قسم الدرك يخضع في لبنان إلى دورات تدريبيّة مكثفة لكشف السكر الظاهر عبر العين. فلا حاجة لآلات فحص نسبة الكحول في الدم أو غير ذلك “والأجانب شو بفهمن!”، (إنتهت الملاحظة).

ولكني أيقنت سبب منع البلدية لتناول المأكولات على الرصيف. إذ إن مقابل الرصيف، مطاعم تدفع بدل غالياً مقابل إيجار محلاتها المطلّة على البحر، وتكلفت مبالغ باهظة للديكور، كما يترتب عليها دفوعات كثيرة من فواتير وضرائب … فلا بد للموطن اللبنانيّ بأن يساهم بدعمها. حتى ولو كلفت الوجبة العائليّة الواحدة الحد الأدنى للأجور.

الإمضاء : “بلديّة بيروت”. كم سعدت بإكتشافي تلك اليافطة الحمراء. شعرت أن البلديّة ساهرة على راحتي، رغم غيابي فترة عن البحر المسيّج. وأنّها هنا حاضرة، للإهتمام بإبقاء ذلك الرصيف قبلة للأنظار وشبيهاً بأرقى أحياء سوليدير والصيفي فيلاج.

لكني إفتكرت ثانية وقلت في نفسي، لما لم تستبدل البلدية كل تلك الممنوعات بعبارة : “لطفاً، يمنع على الرصيف، الفقراء. بلدية بيروت”. لكانت وفرت مساحة طباعية على خزينتها، فلما هدر المال العام؟

فالفقراء (ذوي الدخل المحدود – أكثرية اللبنانيين) هم الذين يأتون بكراسيهم، ومأكولاتهم، ونراجيلهم إلى تلك المساحة الوحيدة المتبقية من بيروت كمساحة عامة. (دون حجب حق الأغنياء بممارسة هكذا أفعال). وهم الذين لا قدرة أو وصول لهم إلى رفاهيّة المطاعم، والمجمعات التجاريّة، والمنتجعات الخاصة … بل إنهم يهربون من تقصير البلدية في تأمين مساكن وأحياء ملائمة للعيش إلى فساحة البحر، ليقضوا نهاراً مشمساً مع أولادهم وأقربائهم أمام بحر مدينتهم.

فلتمنعهم البلدية من الإقتراب من الرصيف البحريّ. ولتبيعه إلى مستثمرين يجعلون منه ليمونة، أوموزة، أو أرزة باي!

أو فلتخصص لهم غرف زجاجيّة صغيرة على الرصيف، من حيث يرون البحر، ويدخنون، ويأكلون، ويجلسون على كراسيهم، دون أن يلوثوا المشهد العام أو يخدشوا صورة البلديّة.

وقفت مذهولاً من جميع تلك الأفكار التي انتابتني، والتي تحولت إلى كابوس يقظة. ثم رحت أسأل نفسي، عن السبب الفعليّ الذي دفع ببلدية بيروت لوضع هكذا يافطة! هل كان الهدف تطبيق شعارات مفرغّة من معناها مثل الحفاظ على البيئة، والسلامة العامة؟ هل سقط سهواً على البلدية من أصغر موظفيّها حتى رأس هرمها أن ذاك القرار يتضمن إجحافاً في حق طبقة إجتماعيّة، ليس لديها خيارات بديلة عن الرصيف البحري، إحدى المساحات العامة القليلة جداً المتبقيّة في مدينة بيروت؟ أليس في ذلك نوع من العنصرية الطبقيّة؟

ثم قلت في نفسي انني لا بد أبالغ قليلاً بسبب تأثير الكحول، ولربما تلك اليافطة الحمراء ليست إلا مزحة سمجة ابتدعها أحد الناشطين ضد إنحسار المساحات العامة في بيروت !

نظرت من خلفي، ووجدت رفاقي يترجلون من السيارة. فمضيت عنهم، أبحث عن سائق سرفيس، أدفع له ٣، و٤… سرفيسات. إذ أعتقد أنني أفضل إحمرار نمرته، ذو السيارة المهترئة والأحاديث المملة، والدورات الغير منتهية عن تلك اليافطة.